الدوحة – القبس:
أنهى عبد الرازق القحطاني استعداداته لموسم «المقناص» الذي أصبح على الأبواب، فقد أجرى التعديلات اللازمة على سيارته ذات الدفع الرباعي لتتوافق مع متطلبات ملاحقة الفرائس من الأرانب والطيور كالحبارى، واشترى كافة اللوازم الأخرى لعملية الصيد مثل الصقور والمعدات الضرورية الأخرى.
القحطاني، وهو مواطن قطري في الخميسينيات من عمره ويعمل في القطاع الحكومي، يمارس هواية الصيد كل عام منذ أكثر من 15 عاما، يقول إنه يضطر للحصول على إجازة غير مدفوعة من أجل الذهاب في رحلات الصيد، حيث يكون في بداية موسم الصيد قد استنفد كامل رصيد إجازاته.
ولا يستطيع القحطاني إخفاء سعادته الغامرة بقرب حلول موسم المقناص، مضيفا: «هذه هوايتي المفضلة على الإطلاق، ورثتها عن آبائي وأجدادي ولا أستطيع التخلي عنها».
وينوي القحطاني الذهاب في موسم المقناص لهذا العام الى صحراء سوريا، بينما كان العام الفائت أمضى ثلاثة أسابيع في المغرب قنص خلالها العديد من الأرانب البرية التي يصفها بـ«الشهية».
تستغرق رحلات القنص في الغالب عدة أسابيع، وأحيانا تمتد لأكثر من شهر إذا ما كان موسم القنص دسما على حد قول القحطاني، لكنه يقول إن هذه الرحلات تتخللها متاعب ومشاق كثيرة في البراري.
وتعد أماكن مثل العراق وسوريا والمغرب وباكستان وأفغانستان وروسيا وجهات مفضلة للباحثين عن القنص في الخليج.
تعقب إلكتروني
ومع التطور الكبير الذي شهدته هواية المقناص خلال السنوات القليلة الفائتة، تحولت من مهنة يمارسها الأجداد في السابق للحصول على الصيد والحيوانات البرية، أو علية القوم من باب الترفيه والتعبير عن الفروسية والقدرة على تحمل الصعاب، إلى هواية دارجة يحرص الكثيرون على ممارستها رغم ما تتطلبه من تدريب ودراية، خصوصا في كيفية التعامل مع الصقور وتحديد أماكن الحبارى والأرانب وغيرها من الصيد.
ويستعين هواة المقناص في الوقت الراهن بأحدث أجهزة التعقب الإلكترونية وخرائط الـ«جي بي إس» بالأقمار الصناعية، وأجهزة لمحاكاة أصوات الطيور وغيرها، بالإضافة الى سيارات الدفع الرباعي المعدلة خصيصاً للمقناص.
الفرق الحاصل حالياً بين مستوى إقبال الناس على «مقناص الأمس» حين كان يولي أهمية كبيرة في سلم العادات الاجتماعية التقليدية وعزوف الشباب عن «مقناص اليوم» يعيده من التقينا بهم من أصحاب الخبرة في المجال إلى عدة عوامل من أهمها المشاغل الكثيرة التي أشغلت شباب اليوم عن هذه الهواية الصعبة التي تحتاج صبراً وجلداً، كما أن ظهور بعض الهوايات الأخرى، أفرز خيارات جديدة يمكنها أن تمتع الشاب دون أن تتعبه.
يقول ياسين الحر الذي يعشق هواية الصيد البري:
- إن تجهيزات «المقناص» تغيرت اليوم عما كانت عليه في السابق، ففي الماضي كان الصياد يصطحب معه فرسه أو جمله ويحمل زاده ويهتدي بالنجوم على الأماكن البعيدة، ويقص أثر الطيور عن طريق بقايا فضلاتها أو أماكن مظنة تواجدها.
أما اليوم فأصبحت الأجهزة المربوطة بالأقمار الاصطناعية وأجهزة محاكاة الأصوات التي يتم تثبيتها في سيارات الدفع الرباعي من أهم المعدات التي لا غنى للقناص عنها في رحلات المقناص، والتي لم تعد قاصرة على بلد معين أو حدود ضيقة، حيث يسافر اليوم هواة الصيد إلى بلدان عديدة وبعيدة بحثاً عن الأرانب والحبارى والكراوين، مثل منطقة الاحساء في السعودية، وجنوب وشمال سوريا والعراق وجنوب روسيا وموريتانيا والجزائر، وغيرها من البلدان التي صارت تشد إليها رحال الصقارة، بالإضافة الى المناطق المحاذية للبحر في بعض دول الخليج.
مشاق ومصاعب
ويضيف الحر أن هناك لوازم خاصة بالطائر يجب توافرها خلال الرحلة، بسبب أن الصقر يعتبر العنصر الرئيسي في عملية المقناص وبدونه تفقد قيمتها والهدف منها، وبالتالي يجب أن يولى اهتماماً خاصاً، ومن هذه اللوازم، السبوق والبراقع والدسوس والمخلاة، وهي مصنوعات جلدية بعضها يوضع على عيني الطائر حتى لا يشعر بالخوف أو التوجس مما حوله ويبقى هادئاً، ومقابض لمسكه وغيرها.
من جانبه، يرى وليد الجاسم الذي أصبح يمارس هواية الصيد منذ عامين فقط إنه مغرم كثيرا بهذه الهواية الممتعة، لافتا الى أنها تكرس عادات وتقاليد الآباء والأجداد فضلا عن أنها تعلم الصبر وتحمل الصعاب والمشاق.
يقول الجاسم الذي يملك متجرا يتخصص في تربية وتدريب طيور المقناص:
- لم يبدأ المقناص كهواية أو كنوع من الترفيه كما هي الحال اليوم، بل دعت حاجة الإنسان في القديم الى الغذاء إلى البحث عن الصيد بطرق شتى، كان من بينها طريقة اصطياد الطيور بالطيور الجارحة كالصقور بشتى أنواعها. وكان يتولى عملية الصيد رجال الحي وشيوخه، وتوارثت الأجيال هذه المهنة في منطقة الجزيرة العربية التي كانت موطناً للكثير من أصناف الطيور كالحبارى والحمام الوحشي والحبش وغيرها. وظل سكان المنطقة متمسكين بهذا التقليد حتى وقت قريب، حين تطورت العادات وتغيرت بفعل النهضة الكبيرة التي شهدتها منطقة الخليج العربي في السبعينات من القرن الفائت.
ويمضي الجاسم الى القول:
- ورود الصيد بالجوارح في القرآن الكريم دليل على أن المقناص عادة متأصلة في العرب حتى قبيل الإسلام، يقول تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم}، ولارتباط البدو بالمحيط الذي يعيشون فيه تطورت هذه الظاهرة، وأصبحت رمزاً من رموز الشجاعة والإقدام، والقدرة على التحمل، ومبعثاً للتفاخر فيما بينهم.
الشرياص
وحول كيفية اصطياد الصقور والجوارح وتدريبها على اقتناص الفريسة، يقول الجاسم:
- يسمى الصقر الأصيل بـ«الحر»، وسمي كذلك لأنه لا يصيد إلا الفرائس الكبيرة، ومن طرق صيد الصقور «الكوخ» وهو حفرة مغطاة بسعف النخيل أو ما شابه، ويدخل بها الصياد الذي يسمى بالطاروح، ولا بد من وجود فتحات تمكنه من رؤية الشباك المحيطة بالكوخ من خلالها.
ويستخدم غالباً في هذه الطريقة طائر يسمى «الشرياص» ويوضع في كفه قليل من الريش على هيئة فريسة شريطة أن يكون الشرياص مربوطاً بخيط طويل، ليتمكن من الطيران عالياً، وذلك حتى يراه الصقر ويندفع نحوه.
فعندما يرى الشرياص الصقر يرجع إلى مكانه، وعندها يقوم الصياد بسحب خيط الحمامة الموجودة مسبقاً؛ كي يراها الصقر فينقض عليها، وعندما ينشغل في أكلها يسحبها الصياد باتجاه الشبكة المنصوبة وبذلك يتم اصطياده.
وطريقة الشبكة الأرضية التي توضع في حالة رؤية الصقر تكون عكس الهواء، وهي عمودان ينصبان ثم تثبت بينهما الشبكة وتوضع عليها الحمامة فيأتي الصقر طالبًا الفريسة فيقع في الشبكة، كما توجد طريقة الشبكة الهوائية وهي شبكة لها فتحات صغيرة تلبس بها الحمامة على ظهرها وفي حالة رؤية الطير تقذف له فينقض عليها فيعلق بها، وطرق أخرى منها النقل وهو مجموعة ريش توضع بداخله أنواع من الشباك الخفيفة فينقض عليها الطائر ليمسك بالريش الذي بداخله الشباك فتصطاده.
ويشير الجاسم الى أن السنوات الأخيرة شهدت دخول تقنيات جديدة على عملية اصطياد وتدريب الصقر، خصوصا في أعقاب ظهور السيارات العابرة للصحارى والأجهزة التي تغرز في الطائر وتمكن من تتبعه ومعرفة أماكن تواجده بشكل مستمر، وأصبحت تستورد من عدة دول في العالم من بينها إيران العراق وسوريا ودول الاتحاد السوفيتي السابق، كما استحدثت مزارع لتهجين الصقور المتميزة بدلاً من اصطيادها.
الصقر الخليجي
وبشأن الطرق التي يتبعها الصقار لتدريب الطائر حتى يكون جاهزاً للقنص، يقول الجاسم:
- يجب أن يتعود الطائر على صاحبه، وأن يتآلف مع المحيط الجديد الذي سيعيش فيه، لذلك يجب أن تولى للصقر رعاية خاصة وأن يتغذى بطريقة سليمة.
كما أن تدريبه على الانقضاض على الفريسة يتطلب مهارات أخرى، من قبيل منعه عن الأكل لعدة أيام حتى يجوع كثيرا ووضع طعم أمامه من مسافات متدرجة حتى يتعود على عملية افتراس الطيور بسرعات عالية. وتستغرق فترة التدريب ما بين 15 يوما إلى شهر حسب نوع الطائر فرناصا كان أو فرخا أو غيره.
وبشأن الإقبال على شراء الصقور في الوقت الراهن، أشار الجاسم إلى أنه لم يعد كما كان في السابق، لكن هناك الكثير ممن يهتمون بالصقور وتربيتها وتدريبها ليس فقط للمقناص بل من أجل إهدائها لمن يحبون أو تربيتها في البيت أو المجلس، كما أن الأسعار تغيرت في السنوات الأخيرة حيث أصبحت تتراوح بين 1000 و30 ألف ريال وفقا لنوع الطائر ومدى ندرة نوعه.
يقول الجاسم:
- ندرة الطائر وشكله وفصيلته وحجمه وشكله الخارجي، كلها من العوامل التي تحدد قيمته وسعره في السوق، فأغلى طائر حالياً هو الصقر الخليجي الذي يصل سعره الى أكثر من 30 الف ريال حيث انه يتمتع بقدرة فائقة على الانقضاض على فريسته، وأبرز هذه الأنواع «شاهين الدوحة»، لأنه تمكن من الوصول إلى هذه المناطق مهاجراً من موطنه الأصلي في روسيا أو بلاد الشام، ما يعني أنه يتمتع بقوة عالية، كما أنه تآلف مع الطبيعة الصحراوية ولم يعد بحاجة الى كثير من العناء في تدريبه وتربيته.
تكاليف باهظة
أوضح وليد الجاسم أن الرعاية الخاصة التي أولتها الحكومات الخليجية للعادات القديمة والتراث المحلي أسهمت كثيراً في الحفاظ على هواية المقناص وعدم اندثارها:
- وخير دليل على ذلك تخصيص مكان للصقارة في عدد من الأسواق الشعبية في دول التعاون مثل سوق واقف في الدوحة وإنشاء مراكز لرعاية وتطبيب الطيور، فضلا عن المهرجانات والفعاليات الكثيرة التي يجري تنظيمها بين فترة وأخرى مثل مسابقات جمال الطيور وأسرعها وغيرها، لما لها من دور في الحفاظ على هذا التقليد العربي الأصيل وحمايته من موجة التطوير الكبيرة التي أفرغت الكثير من العادات التقليدية من محتواها.
حسن بوكربل وهو قطري يتجاوز عمره الخمسين عاما، يقول:
- أمارس هواية القنص منذ سنوات طويلة، وأعتقد أن المقناص لا يزال يلقى اهتماماً كبيرا في أوساط الشباب خلافاً لما يقول البعض، إلا أن الهدف منه قد يكون هو ما تغير، فلم تعد الرحلة من أجل الصيد في الأساس، بل دخلت فيها المتعة والمغامرات والتجوال في مناطق جديدة والسياحة في بلدان متعددة تحت عنوان المقناص.
وهناك أماكن جيدة للمقناص في الخليج ولا يحتاج المرء الى السفر لكي يجد الحبارى أو الطيور والأرانب.
وتحدث بوكربل عن تكاليف باهظة لرحلات القنص، لافتا الى أن بعضها يصل الى 600 الف ريال (164.8 الف دولار)، وذلك حسب جهة الرحلة ومدتها والتجهيزات واللوازم التي تتطلبها.